فصل: الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الفصل الثالث عشر: في علوم البشر وعلوم الملائكة:

إنا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصحيح وجود ثلاثة عوالم: أولها: عالم الحس ونعتبره بمدارك الحس الذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك ثم نعتبره الفكر الذي اختص به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانية علما ضروريا بما بين جنبينا من مدارك العلمية التي هي فوق مدارك الحس فتراه عالما آخر فوق عالم الحس ثم نستدل على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره التي تلقى في أفئدتنا كالإرادات والوجهات نحو الحركات الفعلية فنعلم أن هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا وهو عالم الأرواح والملائكة وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة وربما يستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني وذواته بالرؤيا وما نجد في النوم ويلقى إلينا فيه من الأمور التي نحن في غفلة عنها في اليقظة وتطابق الواقع في الصحيحة منها فنعلم أنها حق ومن عالم الحق وأما أضغاث الأحلام فصور خيالية يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحس ولا نجد على هذا العالم الروحاني برهانا أوضح من هذا فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلا.
وما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته وترتيبها المسماة عندهم بالعقول فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه كما هو مقرر في كلامهم في المنطق لأن من شرطه أن تكون قضاياه أولية ذاتية وهذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات فلا سبيل للبرهان فيها ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان ويحكمها وأعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر لأنه وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية والروحانية ويشترك في عالم الحس مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الذين ذواتهم من جنس ذواته وهي ذوات مجردة عن الجسمانية والمادة وعقل صرف يتحد فيه العقل والعاقل والمعقول وكأنه ذات حقيقتها الإدراك والعقل فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتة.
وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة فهو كله مكتسب والذات التي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادة هيولانية تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا فشيئا حتى تستكمل ويصح وجودها بالموت في مادتها وصورتها فالمطلوبات فيها مترددة بين النفي والإثبات دائما بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطرفين فإذا حصل وصار معلوما افتقر إلى بيان المطابقة وربما أوضحها البرهان الصناعي لكنه من وراء الحجاب وليس كالمعاينة التي في علوم الملائكة وقد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكي فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد في علمه وعالم بالكسب والصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية وكشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالإذكار التي أفضلها صلاة تنتهي عن الفحشاء والمنكر وبالتنزه عن المتناولات المهمة ورأسها الصوم وبالوجهة إلى الله بجميع قواه والله علم الإنسان ما لم يعلم.

.الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

إنا نجد هذا الصنف من البشر تعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر وأحوالهم فتغلب الوجهة الربانية فيهم على البشرية في القوى الإدراكية والنزوعية من الشهوة والغضب وسائر الأحوال البدنية فتجدهم متنزهين عن الأحوال الربانية من العبادة والذكر لله بما يقتضي معرفتهم به فخبرين عنة بما يوحي إليهم في تلك الحالة من هداية الأمة على طريقة واحدة وسنن معهود منهم لا يتبدل فيهم كأنة جبلة فطرهم الله عليها وقد تقدم لنا الكلام في الوحي أول الكتاب في فصل المدركين للغيب وبينا هنالك أن الوجود كله في عوالمه البسيطة والمركبة على تركيب طبيعي من أعلاها وأسفلها متصلة كلها اتصالا لا ينخرم وأن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاوزها من الأسفل والأعلى استعدادا طبيعيا كما في العناصر الجسمانية البسيطة وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والروية وهذا الاستعداد الذي في جانب كل أفق من العوالم هو معنى الاتصال فيها.
وفوق العالم البشري عالم روحاني شهدت لنا به الآثار التي فينا منه بما يعطينا من قوى الإدراك والإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف وتعقل محض وهو عالم الملائكة فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات وفي لمحة من اللمحات ثم تراجع بشريتها وقد تلقت في عالم الملكية ما كفلت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر وهذا هو معنى الوحي وخطاب الملائكة والأنبياء كلهم مفطورون عليه كأنه جبلة لهم ويعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة والغطيط ما هو معروف عنهم وعلومهم في تلك الحالة علم شهادة وعيان لا يلحقه الخطأ والزلل ولا يقع فيه الغلط والوهم بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية لا تفارق علمهم الوضوح استصحابا له من تلك الحالة الأولى ولما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها يتردد ذلك فيهم دائما إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها كما في قوله تعالى: {إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه} فافهم ذلك وراجع ما قدمناه لك أول الكتاب في أصناف المدركين للغيب يتضح لك شرحه وبيانه فقد بسطناه هنالك بسطا شافيا والله الموفق.